تفاؤل محفوف بالمخاطر (S&P500) : قراءة في قفزة وول ستريت على خلفية محادثات واشنطن وبكين!

0

المنبر التونسي (وول ستريت) – بدأت الأسواق اليوم الاثنين بتداولات ايجابية للعقود الآجلة في وول ستريت، وكان هذا بمثابة دفعة نفسية للأسواق العالمية، بعد أن أُعلن عن “تقدم كبير” في المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. لذا أرى أن هذه القفزة التي سجلتها العقود الآجلة لمؤشرات داو جونز وستاندرد آند بورز وناسداك تعكس ليس فقط استجابة فورية للأخبار، بل أيضًا تعطش المستثمرين لأي إشارات إيجابية من شأنها تهدئة حرب تجارية طال أمدها وأثقلت كاهل النمو العالمي. إلا أن هذه الاستجابة المتفائلة يجب أن تُقرأ في سياق أوسع من الشكوك المتزايدة، خاصةً في ظل غياب تفاصيل ملموسة عن طبيعة “التقدم” المزعوم.

وفي الواقع، إن ما حدث خلال عطلة نهاية الأسبوع في جنيف بين المفاوضين الأمريكيين والصينيين، ورغم وصفه بـ”المثمر”، إلا أنه خالٍ من الالتزامات الصريحة أو التنازلات المتبادلة الواضحة. إن أسواق المال بطبيعتها سريعة التأثر بالنبرة الإيجابية، وهذا ما يفسر الارتفاع اللحظي في العقود الآجلة، إلا أن هذه الطفرة قد تكون قصيرة الأمد إذا لم تُترجم إلى سياسات عملية على الأرض. وأعتقد أن التفاؤل وحده لا يمكنه تغيير اتجاهات اقتصادية تقودها وقائع أكثر عمقًا، مثل التضخم المرتفع، والسياسات النقدية المتشددة، والجمود في التجارة العالمية.

ويُعزز من وجهة نظري هذه، أن المؤشرات الثلاثة الرئيسية في وول ستريت أنهت الأسبوع الماضي على انخفاض، مما يدل على هشاشة ثقة المستثمرين. وعليه، فإن الارتداد الحالي لا يعكس بداية صعود مستدام، بل بالأحرى استراحة مؤقتة في مسار متقلب تحكمه الأخبار العاجلة والمواقف السياسية أكثر من العوامل الاقتصادية الصلبة. وفي ظل استمرار الرسوم الجمركية المرتفعة، فإن الأسواق لا تزال معرضة لضغوط تضخمية إضافية، وهو ما سيكشفه بوضوح تقرير مؤشر أسعار المستهلك المنتظر صدوره هذا الأسبوع.

وفي هذا السياق، تأتي تصريحات وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك لتؤكد استمرار النهج التصعيدي في السياسة التجارية، مع الإصرار على تطبيق تعريفة أساسية بنسبة 10% على جميع الواردات. وهذا الموقف، في رأيي، يُضعف من مصداقية أي حديث عن تهدئة، ويدفعني للتساؤل حول جدية واشنطن في خفض حدة التوترات التجارية، خاصة في وقت تشهد فيه البلاد أعلى توقعات تضخم سنوية منذ أكثر من أربعة عقود. والرسوم الانتقامية التي فرضتها بكين بنسبة 125% لا تقل حدة، وتؤكد أن ما يجري هو سباق عض أصابع لا مفاوضات حسن نية.

أما الانعكاسات الاقتصادية لتلك السياسات ليست نظرية فحسب، بل محسوسة من خلال الضغوط الواقعة على المستهلك الأمريكي، وتكاليف الإنتاج المتزايدة للشركات. ولهذا السبب، فإن صدور بيانات مؤشر أسعار المستهلك ومبيعات التجزئة هذا الأسبوع سيكون بمثابة اختبار حقيقي للمزاج التفاؤلي الذي طغى مؤقتًا على الأسواق. وإذا ما أظهرت هذه البيانات زيادات في الأسعار وتباطؤًا في الطلب، فإن الأسواق ستعاود الهبوط سريعًا، مدفوعة بإدراك أن التهديد الأكبر ليس في الخطاب السياسي بل في المعطيات الاقتصادية الواقعية.

ومن جهة أخرى، بالنسبة لي تُظهر حركة الدولار وبيع سندات الخزانة الأمريكية أن المستثمرين بدأوا يعيدون تقييم رهاناتهم بشأن تخفيض أسعار الفائدة. والاحتمالات الحالية لتخفيض الفائدة في يونيو لا تتجاوز 17%، بينما ترتفع قليلاً في يوليو، مما يعني أن الأسواق بدأت تدرك أن التضخم قد يُجبر الاحتياطي الفيدرالي على إبقاء السياسة النقدية متشددة لفترة أطول. وهذا التغيير في المزاج يعكس وعيًا متزايدًا بأن أي تقدم في المحادثات التجارية، إن لم يكن مصحوبًا بانخفاض فعلي في الأسعار وضمانات للاستقرار الاقتصادي، فلن يكون كافيًا لتغيير اتجاه السياسة النقدية أو معنويات السوق على المدى المتوسط.

ومن اللافت أيضًا أن المستثمرين باتوا يظهرون ثقة أكبر في تصريحات بكين مقارنةً بالبيت الأبيض، وهو تطور غير مألوف في الأسواق العالمية. والسبب في ذلك لا يعود فقط إلى السياسة التجارية الأمريكية العدوانية، بل إلى طبيعة الرسائل المتضاربة التي تصدر من واشنطن والتي غالبًا ما تُبطل بعضها البعض. فهذا الاضطراب يخلق بيئة غير مستقرة للاستثمار، ويدفع الأسواق إلى التمسك بأي طرف يبدو أكثر استقرارًا وعقلانية في رسائله، حتى لو كان يمثل نظامًا مغلقًا.

أما المحادثات التجارية نفسها، فرغم وصفها بأنها “مثمرة”، فإن غياب التفاصيل يثير الشكوك. وقد أشار محللون آسيويون إلى أن أي تقدم فعلي يجب أن يتضمن آلية لمحادثات دورية أو تخفيضات ملموسة في الرسوم الجمركية حتى يكتسب مصداقية. وفي هذا السياق، فإنني أرى أن الاتفاق المزعوم بين واشنطن وبكين، رغم أهميته الرمزية، لا يزال بعيدًا عن تشكيل نقطة تحول حقيقية في مسار العلاقات الاقتصادية بين البلدين، ما لم يُترجم إلى إجراءات عملية قابلة للقياس.

وفي الختام، أرى أن الأسواق في هذه المرحلة واقعة بين مطرقة التفاؤل السياسي وسندان الواقع الاقتصادي. فالارتفاعات اللحظية للعقود الآجلة ليست سوى انعكاس لحالة مؤقتة من الترقب الإيجابي، لكنها لن تصمد طويلًا ما لم تتغير السياسات فعليًا، ويُعاد ضبط العلاقات التجارية على أسس أكثر واقعية. وحتى ذلك الحين، فإن على المستثمرين الاستعداد لمزيد من التقلبات، ومواصلة تقييم المخاطر بناءً على البيانات لا التصريحات.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.