المنبر التونسي (Laaroussa Quartet) – احتضنت قاعة الريو بالعاصمة مساء الخميس 16 أكتوبر 2025 العرض الكوريغرافي “Laaroussa Quartet” من توقيع الثنائي سلمى وسفيان ويسي، وذلك ضمن فعاليات الدورة 10 لتظاهرة “دريم سيتي” (3–19 أكتوبر 2025).
هذا العمل الذي كان قد عُرض لأول مرة في العالم ضمن النسخة 79 من مهرجان “أفينيون” في فرنسا خلال شهر جويلية 2025، يتواصل عرضه في تونس بقاعة الريو إلى يوم 19 أكتوبر ضمن تظاهرة “دريم سيتي”. وهو يجمع بين الرقص المعاصر والموسيقى الحية والفيديو، ليقدم تجربة فنية متفردة تستلهم التراث الشعبي النسوي لحرفيات الخزف بسجنان وتعيد صياغته بلغة جسدية حديثة تبرز الجمال والذاكرة والإنسان في آن واحد.
تؤدي الأدوار في العمل الراقصات “أماندا بّاريو شارميلو” وسندس بلحسن و”مارينا ديليكادو” و”مويا مايكل”. أما الجانب الموسيقي والدرامي للعرض فقد ساهم فيه “توم باولز” في الدراماتورجيا الصوتية وعائشة أورزباييفا في تأليف وعزف مقاطع الكمان المصاحبة للأداء ورافقتها أغاني وآهات امرأة سجنان شاذلية سعيداني.
ويحمل العنوان “Laaroussa Quartet” مقاصد ودلالات ثقافية وفنية، فكلمة “العروسة” تشير إلى الدمى الفخارية التقليدية التي تصنعها حرفيات منطقة سجنان التابعة لولاية بنزرت في شمال البلاد التونسية. وهذه الدمى شكلت على مدى الأزمنة رموزا للحياة والإبداع والذاكرة الجماعية، إذ تعبّر كل قطعة عن هوية صانعتها وعن علاقتها بالأرض والطين والموروث الأمازيغي. أما كلمة “Quartet” أي “الرباعية” فترمز إلى الفنانات الكوريغرافيات الأربع اللواتي قدّمن العرض فوق الخشبة وجسدن حركة نساء سجنان وأيديهن المبدعة. وبذلك يجمع العنوان بين جذور الحرفة التقليدية وتعبيرات الفن المعاصر وكذلك بين الماضي المتجذر في الأرض والحاضر المنفتح على التجريب والحرية.
ويتميز هذا العمل ببنية فنية تقوم على البساطة والتجريد إذ لا يعتمد على السرد القصصي الكلاسيكي المباشر وإنما على الجسد والحركة. ويبدأ العرض من مشهد ثابت مقعد وآلة كمان موضوعان على الأرض، وأربع نساء يتحركن بخفة ويضعن أوراقا على الخشبة ويتبادلن نظرات وإيماءات صغيرة. هذه البداية البسيطة مهدت لبناء بصري متدرج حوّل الخشبة إلى فضاء تأملي مفتوح على عديد القراءات والتأويلات.
وقد اتسمت الحركات الجسدية بالإيقاع والدقة والتكرار، وهي مستوحاة من حركات الأيدي النسائية أثناء تشكيل الطين، فكانت كل حركة ولمسة واهتزاز تحمل معاني ومقاصد كأن الراقصات يُعدن خلق الطين في الهواء فيحمل الجسد فعل النحت ويصبح الرقص نفسه لغة الخلق والتكوين. وهذه الجمالية الحركية تجمع بين الحزم والليونة وبين التكرار والابتكار وهو ما يميز أسلوب الثنائي ويسي المعروف بقدرته على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى مشاهد شعرية مصورة.
ولعبت الموسيقى دورا محوريا في النسيج الفني للعرض، إذ عزفت عائشة أورزباييفا على الكمان إيقاعات حية تراوحت بين الهمس والنغمة الحادة لترافق الحركات الجسدية بخيط غير مرئي من الإحساس. وحوّلت صوت الكمان أحيانا إلى صدى لأنفاس الراقصات “الحرفيات” وأحيانا أخرى يقاطع الصمت ليمنح الحركة بعدا جديدا. كما أدت شاذلية سعيداني ابنة سجنان مقاطع غنائية شجية تلامس الوجدان ما أضفى على العرض بعدا روحيا يربط الأرض بالبقاء الإنساني والصمود والمقامة من أجل إثبات الوجود.
أما في خلفية الركح، فقد توالت مشاهد مصورة من قرية سجنان حيث الأيادي تغوص في الطين ونساء يبتسمن للكاميرا في الحقول. وهذه الصور جاءت كوثيقة بصرية تحاور الأداء الحي وتكمله ولتمنح العرض بعدا واقعيا يؤكد ارتباط الفن بالحياة اليومية.
ولا يقدم سفيان وسلمى ويسي في “Laaroussa Quartet” عرضا جماليا فحسب وإنما يحمل في جوهره أسئلة إنسانية وثقافية، فهو عمل يتأمل في دور المرأة كحافظة للذاكرة وصانعة للجمال ويعيد الاعتبار إلى الحرفة اليدوية بوصفها شكلا من أشكال الفن والمقاومة. فالنساء في سجنان ينقلن مهارتهن من جيل إلى جيل ويصنعن الدمى كما لو أنهن يصنعن العالم من جديد. ومن خلال استلهام هذه الصورة، يبرز العرض قيمة العمل اليدوي كفعل مقاومة ضد النسيان والعولمة الثقافية ويجعل من الحركة الجسدية وسيلة لاستعادة الصوت النسوي الصامت. كما يطرح أسئلة كثيرة حول ماهية الفن نفسه إن كان استمرارا للتراث أم إعادة اختراع له.
وفي هذا السياق، يأتي عرض “Laaroussa Quartet ليقدم رؤية الثنائي ويسي للفن بأنه ذاكرة متجددة لا تكرّر الماضي وإنما تمنحه حياة جديدة بلغة الحاضر، وهكذا يصبح الجسد في تصور سلمى وسفيان ويسي وسيلة للتفكير في التاريخ والهوية ولغة تعبر عما لا يقال بالكلمات إنه جسد يتكلم ويستدعي الذاكرة لا كحنين بل كقوة حياة متجددة. ولذلك كانت كل حركة فيه هي استحضار لقصة منسية وكل انحناءة هي تحية لتلك الأيادي التي لامست الطين يوما.