لبنان: ساعة الانهيار المالي اقتربت

0

المنبر التونسي(لبنان) – اقتربت ساعة الأزمة المالية في لبنان الآن أكثر من أي وقت مضى، بعدما نفد صبر الناس حيال عجز السلطة عن لجم الفساد والمضي بالإصلاحات البنيوية واستسهالها فرض الضرائب والرسوم على الفقراء، فيما تسعى بيروت للاستحصال على تمويل بملياري دولار.

فقد أصبح لبنان أقرب إلى الأزمة المالية الآن أكثر من أي وقت مضى، مع خروج سيل من المتظاهرين إلى ساحات وطرق العاصمة بيروت وغيرها من المناطق في مختلف أنحاء لبنان، مطالبين بمكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات الموعودة منذ مدة طويلة والتي لم تر النور بسبب المحسوبيات والمحميّات الطائفية والسياسية.

الضغط الشعبي في الشارع دفع حكومة رئيس الوزراء سعد الحريري، يوم الخميس، إلى إلغاء خطة بعد ساعات من إعلانها، كانت تقضي بفرض رسوم على المكالمات الصوتية عبر تطبيقات مثل “واتساب”، لدى مواجهتها أضخم احتجاجات شعبية منذ سنوات، أغلق فيها المحتجون الطرق وأشعلوا إطارات السيارات وعمدوا إلى تكسير وخلع العديد من المؤسسات.

ومن أجل كبح احتمال الانهيار المالي، وعلى وجه السرعة، يحتاج لبنان، أحد أكثر دول العالم مديونية، والذي تتناقص احتياطياته الدولارية بسرعة، إلى إقناع حلفائه في المنطقة والمانحين الغربيين بأنه سيتحرك بجدية أخيراً لمعالجة مشاكل متأصلة، مثل قطاع الكهرباء الذي يعاني من الإهدار ولا يمكن التعويل عليه ويكبّد الخزينة نحو مليارَي دولار سنوياً.
وأوضحت مقابلات أجرتها “رويترز”، مع ما يقرب من 20 من مسؤولي الحكومة والساسة والمصرفيين والمستثمرين، أن لبنان يواجه، إذا لم يحصل على دعم مالي من الخارج، احتمال تخفيض قيمة العملة أو حتى التخلف عن سداد ديونه في غضون أشهر.

وقال وزير الخارجية جبران باسيل في كلمة بثها التلفزيون، يوم الجمعة، إنه قدم ورقة في اجتماع لبحث الأزمة الاقتصادية في سبتمبر قال فيها إن لبنان يحتاج إلى “صدمة كهربائية”.

ومن دون أن يحدد ماهية ما يقصده بالرصيد المالي، قال باسيل: “قلت أيضا إن القليل الباقي من الرصيد المالي قد لا يكفينا لفترة أطول من نهاية السنة إذا لم نعتمد السياسات المطلوبة”.

وكانت الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ بداية التسعينيات قد تعهدت بالحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، والالتزام بسداد ديونها.

غير أن المصادر قالت لرويترز إن الدول التي اعتادت التدخل مالياً لإنقاذ لبنان من الأزمات بشكل يعتمد عليه، نفد صبرها بفعل سوء الإدارة والفساد، ولجأت إلى استخدام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في الضغط من أجل التغيير.

تخفيض الليرة حتمي إذاً…

المستشار السابق لوزارة المالية والاقتصادي السابق لدى “مصرف لبنان” المركزي و”صندوق النقد الدولي”، توفيق كسبار، قال: “إذا ظل الوضع (على ما هو عليه) من دون أي إصلاحات جذرية، فإن تخفيض قيمة العملة أمر محتوم”.

وأضاف “منذ سبتمبر بدأ عهد جديد. علامات الإنذار كبيرة وفي كل مكان، خاصة أن المصرف المركزي يدفع ما يصل إلى 13% للاقتراض بالدولار”.
وعلى رأس قائمة الإصلاحات مشكلة من أعقد المشكلات، هي إصلاح تقنين الكهرباء المزمن الذي جعل اللجوء إلى مولدات الكهرباء الخاصة ضرورة باهظة الكلفة، فيما يرى كثيرون أن هذه المشكلة هي الرمز الرئيسي للفساد الذي أدى إلى تدهور الخدمات والبنية التحتية.

الحريري قال في كلمة إلى الشعب، بثها التلفزيون مساء الجمعة، إنه ظل يكافح لإصلاح قطاع الكهرباء منذ توليه منصبه، مضيفاً: “اجتماع ورا اجتماع ولجنة ورا لجنة وطرح ورا طرح، وصلت أخيراً إلى خط النهاية إجا من يقول ما بيمشي؟”.

مستعرضاً الصعوبات التي تواجه تنفيذ الإصلاح على نطاق أوسع، قال الحريري إن كل لجنة تحتاج إلى مشاركة 9 وزراء على الأقل إرضاء لجميع الأطراف، مضيفاً: “حكومة وحدة وطنية؟ فهمنا. ولجان كمان، لجان وحدة وطنية؟ والنتيجة ما في شيء بيمشي”.

ضغوط خارجية لاعتماد محطات كهرباء عائمة

وتأكيداً للضغوط الخارجية، سيتوجه إلى لبنان، الأسبوع المقبل، السفير الفرنسي المكلف بمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر “سيدر” CEDRE للمانحين الخاص بدعم لبنان، بيير دوكان، للضغط على الحكومة بشأن استخدام محطات توليد الكهرباء العائمة، وذلك حسبما قاله مصرفي مطلع على الخطة.

المصرفي، الذي طلب الحفاظ على سرية هويته، قال إن دوكان يريد إدراج هذه المحطات العائمة في خطة إصلاح القطاع الكهربائي، فيما لم يتسن للوكالة الاتصال بدوكان للتعليق.

وسيكون مضمون موازنة 2020 عنصراً للمساعدة في الإفراج عن حوالى 11 مليار دولار، صدرت بها تعهدات مشروطة من المانحين الدوليين بمقتضى مؤتمر “سيدر” الذي عقد العام الماضي.

غير أن اجتماع مجلس الوزراء الذي كان مقرراً عقده لبحث مشروع الموازنة العامة لسنة 2020، عصر أمس الجمعة، أُلغي بسبب تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية.

“انتفاضة الضرائب”

كانت حكومة الحريري، التي تشارك فيها أحزاب لبنان كلها تقريباً، قد اقترحت فرض ضريبة بمقدار 20 سنتا في اليوم على المكالمات الصوتية من خلال تطبيقات مثل “واتساب” و”فيسبوك” و”فيس تايم”.
وتصاعد الدخان من جراء حرائق في وسط بيروت، وانتشرت قطع الزجاج المكسور في الشوارع من جراء تحطم واجهات عدد من المتاجر، وأطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لتفريق بعض التجمعات.

وقال فادي عيسى (51 عاما) الذي شارك في الاحتجاجات: “ما بقى فينا نتحمل في ظل السلطة الفاسدة. أولادنا ما عندهم مستقبل… ما بدنا استقالة فقط بدنا محاسبة وبدهم يرجعوا المصاري يللي سرقوها ولازم يصير تغيير والشعب هو الذي يستطيع أن يغير”.

فبعد سنوات ظلت البنوك تمول الحكومة خلالها، متوقعة أن تواصل العوائد ارتفاعها، بدأت تلك البنوك تطالب، انطلاقا من إحساسها من اقتراب البلاد من الانهيار، بتنفيذ الإصلاحات لكسب تأييد الجهات المانحة.

ضغوط اقتصادية أكبر خلال أشهر

وقالت غالبية من حاورتهم رويترز إن لبنان سيشعر على الأرجح بضغوط اقتصادية ومالية أكبر في الأشهر المقبلة، لكنه سيتفادى تحديد سقف لاسترداد الودائع أو عجز الدولة عن سداد التزاماتها السيادية.

ومع ذلك انقسم المسؤولون والمصرفيون والمستثمرون فيما إذا كانت الأمور ستصل إلى حد تخفيض قيمة الليرة اللبنانية بسبب الإخفاق لسنوات في تنفيذ الإصلاحات، وفي ضوء التصميم الجديد بين المانحين التقليديين على المطالبة بها.

رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في مجموعة “بنك بيبلوس”، نسيب غبريل، قال: “أنت بحاجة لصدمة إيجابية. لكن الحكومة تعتقد للأسف أن الإصلاحات يمكن أن تحدث دون المساس بالهيكل الذي تستفيد منه”.

وأضاف أن على لبنان تطبيق الإصلاحات من أجل زيادة التدفقات الرأسمالية، متابعاً: “لا يمكن أن نواصل اللجوء إلى الإماراتيين والسعوديين. نحن بحاجة لمساعدة أنفسنا لكي يساعدنا الآخرون”.

التصنيف الائتماني وتآكل الاحتياطي الأجنبي

في الشهر الجاري، قررت مؤسسة “موديز” للتصنيف الائتماني وضع تصنيف لبنان (سي.ايه.ايه1) قيد المراجعة تمهيداً لتخفيضه، وقدرت أن المصرف المركزي الذي تدخل لتغطية مدفوعات الديون الحكومية، بقيت لديه احتياطيات قابلة للاستخدام تتراوح بين 6 و10 مليارات دولار فقط للحفاظ على الاستقرار، فيما تبلغ قيمة الديون التي يحين أجل سدادها بنهاية العام المقبل نحو 6.5 مليارات دولار.

وقال المصرف المركزي إن الاحتياطي النقدي في 15 أكتوبر بلغ 38.1 مليار دولار، في حين قال مسؤول لرويترز إن لبنان لديه احتياطيات حقيقية تبلغ 10 مليارات دولار فقط.

وأضاف المسؤول أن “الوضع في غاية التردي وأمام لبنان 5 أشهر لتصحيح الوضع وإلا سيحدث انهيار نحو فيفري المقبل.

وقد لا يكون أمام حكومة الحريري سوى بضعة أشهر فقط لتنفيذ إصلاحات مالية لإقناع فرنسا والبنك الدولي والأطراف الأخرى في اتفاق “سيدر”، بالإفراج عن التمويلات المشروطة التي تبلغ قيمتها 11 مليار دولار.

وقال رئيس الاستثمارات الإقليمية في شركة أميركية كبرى لإدارة الأصول إن المسؤولين اللبنانيين يقولون في لقاءات غير رسمية، إنه سيتم الإعلان قبل نهاية العام عن خطة لمعالجة انقطاع التيار الكهربائي في الأجلين القصير والطويل وبعدها سترفع الحكومة الأسعار.

وفي الشهر الماضي غادر الحريري باريس من دون تعهد بالحصول على سيولة فورية، بعد أن زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبالمثل عاد هذا الشهر من أبوظبي خاوي الوفاض بعد أن التقى ولي العهد محمد بن زايد آل نهيان.

وكافح النواب في بيروت لتفسير ما حدث في أبوظبي، بعد أن زعم الحريري أن الإمارات وعدت باستثمارات في أعقاب محادثات “إيجابية”.

العيون على “حزب الله”

يقول المستثمرون والمصرفيون والاقتصاديون إن 10 مليارات دولار على الأقل مطلوبة لتجديد الثقة بين اللبنانيين في الخارج، الذين دعموا الاقتصاد على مدار عشرات السنين من خلال الاحتفاظ بحسابات مصرفية في وطنهم. غير أن الودائع شهدت انكماشا بنسبة 0.4% تقريبا منذ بداية العام الجاري.
وكانت الحكومة قد سعت للحصول على دعم أصغر من حلفائها لكسب الوقت. غير أن عدة مصادر قالت إن على بيروت أن تلبي شروطا تهدف لإضعاف نفوذ “حزب الله” في الحكومة لضمان الحصول على تمويل من الإمارات أو السعودية.

ويقول البعض إن السعودية والإمارات والولايات المتحدة مدفوعة للإمساك عن تقديم الدعم لبيروت في إطار سياستها الأوسع التي تسعى لإضعاف إيران وحلفائها.

مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية ومقره بيروت، سامي نادر، “صبرهم على إيران وحزب الله تضاءل كثيراً. والاستثناء اللبناني اختفى… مال الميزان وأصبحنا الآن على خلاف مع أصدقائنا السابقين لأن حزب الله له اليد العليا الآن سياسياً”.

وقال الرئيس الإقليمي السابق لبنك غربي كبير، من دون مواربة، إن “الناس نفد صبرها على الفساد الذي يعمل فيه ببساطة، برلمان متجمّد من دون أي سلطة على تقسيم الكعكة بين الساسة”.

وأضاف: “لكن في نهاية اليوم، تنجح الطبقة السياسية اللبنانية في العادة في إقناع الحلفاء بأنهم يجب ألا يسمحوا بانهيار النظام وإعادة الحرب الأهلية”.

تضاؤل الثقة

كان لبنان معروفاً بأنه مركز مصرفي في المنطقة تتدفق عليه الودائع، لا سيما منذ 1997 عندما تم ربط العملة بسعر 1507.5 ليرات مقابل الدولار. غير أن الأمور تغيرت بعد أن ارتفعت، في أوت وسبتمبر، تكلفة التأمين على الديون السيادية اللبنانية إلى مستوى قياسي.

وبدأ المودعون، بمن فيهم المهاجرون الذين اجتذبتهم عوائد أعلى كثيرا من المتاح في أوروبا والولايات المتحدة، سحب أموال في مواجهة العجز المزدوج المتنامي الذي يعاني منه لبنان والعجز عن الحصول على تمويل من الخارج ومساعي المصرف المركزي غير العادية لجذب التدفقات الدولارية.
وتضاءلت الثقة وسط السكان، ولم يعد بوسع المودعين سحب الأموال بالدولار بسهولة، ولم تعد أغلب أجهزة الصرف الآلي تتيح سحب الدولارات، ما اضطر الناس للجوء إلى أسواق الصرف الأجنبي الموازية التي يزيد فيها سعر الدولار عن السعر الرسمي.

في السياق، قال كسبار إن الحصول على العملة الأجنبية كان سهلاً حتى أثناء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً. وكان هناك على الدوام فائض في ميزان المدفوعات حتى العام 2011، عندما بدأ العجز يتزايد حتى وصل إلى 12 مليار دولار العام الماضي.

تهاوي عزم المصارف

عجّلت 3 أحداث بأزمة الثقة التي بدت قادمة لا محالة منذ سنوات: تمثل أول تلك الأحداث في سلسلة من جهود المصرف المركزي منذ 2016، لمواصلة نمو الودائع بأسعار فائدة تتجاوز 11% على الودائع الكبيرة، وكان ثانيها زيادة في أجور العاملين بالدولة والقطاع العام في العام الماضي، أدت لزيادة عجز الموازنة لأكثر من 11% من الناتج المحلي الإجمالي، وثالثها انخفاض أسعار النفط في السنوات الأخيرة ما أضعف الحلفاء الخليجيين.

وفي تقرير صادر أول من أمس الخميس، وصف صندوق النقد الدولي موقف لبنان بأنه “صعب للغاية”، وأضاف أن من الضروري اتخاذ “تدابير جوهرية جديدة” لحمايته وتقليل العجز الضخم.

وقال مصرفي إنه مع نضوب الدولار توقفت البنوك فعليا عن الإقراض، ولم يعد بإمكانها تنفيذ المعاملات البسيطة بالنقد الأجنبي لعملائها، مضيفاً أن “دور البنوك كله هو ضخ الأموال للبنك المركزي لتمويل الحكومة وحماية العملة. ولا شيء يحدث في العجز المالي لأن إنجاز أي شيء سيعطل نظم الفساد”.
وكانت مقاومة البنوك غير صريحة لكنها معبرة في ضوء دورها الأساسي في تمويل الحكومة. فعندما اقترحت بيروت خفض تكاليف خدمة الدين بمقدار 660 مليون دولار في موازنة 2019، لم توافق البنوك قط على تلك الفكرة.

وقال مسؤولون إن البنوك فتر حماسها أيضا للاكتتاب في السندات الدولية، بما في ذلك إصدار مزمع في وقت لاحق من الشهر الجاري بملياري دولار. وقال غبريل إنه إذا لم تتحقق الإصلاحات فإن “البنوك تتفق على أنه لن يعود بإمكاننا دعم القطاع العام”.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.