من «كاليغولا» الى فيلم «قيرة»..فاضل الجزيري يستنطق آثار علي بن عياد

0

المنبر التونسي (فاضل الجزيري)- وككلّ عمل مسرحي يقدّمه الجزيري لا يستأثر لنفسه بتشكيل من جديد في عملية مخاض جماعية تتبلور فيها المقاربة بالتدريج حتى إذا أحسّ المخرج ان الثمرة نضجت وحان قطافها يُصارُ إلى تقديم العمل للجمهور. وقد قُدِّم العمل في 2012  في ظروف غير مواتية، في مناخ سياسي و اجتماعي تقهقر فيه الاهتمام بالثقافة لينصبّ على اليوميّ في محاولة لاستيعاب ما يحدث بعد الزلزال الذي أحدثته الثورة. ولم يكتب للمسرحية أن تُعرض إلاّ في ثماني مناسبات. ونتيجة هذا الإجهاض اختار معاودة الحمل والولادة من جديد فأعاد تجميع فريق الممثلين  لإعداد فيلم سينمائي وذلك خيار قارّ في مسيرة المخرج مذ كان في مجموعة المسرح الجديد إذ تمّ تحويل مسرحية” العرس” إلى فيلم سنة 1979 ومسرحية “عرب” سنة 1987. 

وبعد مخاض دام شهورا أعيدت صياغة المسرحية في ضوء ما استجدّ من احداث في المشهد التونسي فإذا المشروع ينأى عن المسرحية التي كتبها المدني وأخرجها بن عيّاد بل ينأى مسافة كبيرة عن المسرحية التي أخرجها الجزيري سنة 2012.

بين 2012 و 2017 تاريخ تصوير الفيلم تدفّقت مياه كثيرة في الأنهار وتحت الجسور وعرف المشهد السياسي التونسي تطوّرات دراماتيكية ليس أقلّها الاغتيالات السياسية ومحاولة جرّ البلاد والعباد إلى معارك حول الهويّة كادت تعصف بالوطن وتجرّه إلى مستنقع العنف كما حدث في عدد من البلاد العربية. ذلك المنعرج الخطير لم يترك الجزيري على الحياد فكان فيلم “قيرة “صرخة تحذير من الانجرار إلى العنف. وهو اذ يستحضر ثورة صاحب الحمار فلِيُذكّر ،عسى ان تنفع الذكرى المؤمنين ، بأن ثورة صاحب الحمار انتهت إلى الفشل لأنّ العنف كان طابعها ولأنّ الدّين كان غطاءهاومُتّكأها. 

المشترك بين “كاليغولا” و “قيرة”. 

بين العملين ملامح مستركة لا تخطئها العين ولا الأذن. 

– الانطلاق من التراث سواء كان كونيا في كاليغولا أو وطنيا في ثورة صاحب الحمار عملا بمقولة غوتة الشهيرة “ليس غريبا عليّ كلّ ما هو إنساني”. 

– إخضاع العمل إلى إعادة كتابة وتخليق ضمن صيرورة ابداعبّة جماعيّة تخضع فيها عملية الابداع إلى ديالكتيك جمالي يفضي في نهاية المطاف إلى عمل متّسق يشي باسلوب شخصي وقاموس يحيل إلى هويّة مبدعه من خلال نسق العمل و ملامح مفرداته وكأنك تقرأ نصّا رسخ اسلوب كاتبه وانطبع في الأذهان كطه حسين أو جبران. خ. جبران فتعرف على الفور صاحبه حتى وإن كان النصّ غفلا من التوقيع. 

 – تعويض الوقائع والشخصيات التاريخية بوقائع وشخصيات من الواقع المعيش والزمن الرّاهن ( الآن و هنا) وإضفاء ضرب من الملحميّة المقصود منها، على عكس الملحميّة التقليدية، كسر مبدإ التوحّد والاندماج لخلق مسافة بين المتلقّي والعمل الفنّي لضمان استيعابه للرّسائل و الشفرات. 

– تصوير الشّخوص في العملين وكأنهم يرزحون تحت ثقل حتميّة قدريّة لا فكاك منها ما يعطي إحساسا بضيق الأفق نتيجة المشاعر الأنانية والدوافع العدوانية وغياب الرؤية الحصيفة.

– اللافت في العملين كما في اعمال الجزيري المسرحية والسينمائية حتى قبل انفضاض مجموعة المسرح الجديد هو هذا الحوار المصوغ بعناية وأناقة ترفعه إلى مرتبة الشعر بعاميّة خالية من أيّ إسفاف وتنأى عن أيّ تحذلق أو افتعال وهو ما ينجح فيه الفاضل الجزيري ويضفي على أعماله مذاقا خاصّا مستلهما في ذلك تراث القصّ الشعبي ومآثر حكّائي الملاحم والسّير الشعبية مستعيدا أمجاد الثقافة الشفويّة وفرسانها من امثال عبد العزيز العروي والتي كان لها دور في صياغة وجدان أجيال متتالية قبل ان تهيمن الصورة والثقافة الرقميّة على كامل المشهد. . بقلم فتحي الخراط.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.